الأحد، 24 يناير 2010

السودان يبيع اراضيه

بلة علي عمر: الصحافة
في أخطر دراسة من نوعها كشف المعهد الدولي لبحوث الدراسات الزراعية واخرى اعدتها قبل ستة شهور منظمة «غرين» غير الحكومية المتخصصة في القضايا الزراعية ومقرها مدينة برشلونة الأسبانية، ان السودان يتصدر قائمة الدول التي باعت او اجرت اراضيها لجهات اجنبية، ووصفت التقارير عمليات البيع بأنها كانت بعيدة عن الشفافية.
«الصحافة» ايمانا منها بخطورة هذه التقارير تعمد في هذه المساحة الى مواصلة العمل في مجال الاراضي الزراعية وموقف الامن الغذائي. ونحن الآن تجاوزنا منتصف يوليو، وهذا يعني ان مزارعي العروة الصيفية بالجزيرة ومشاريع القطاع المروي يعانون من كثافة المياه المتدفقة عبر الترع وابو عشرينات التي تغذيها ترعتا الجزيرة والمناقل، اضافة الى مياه الامطار، وهكذا ظل المفهوم الراسخ، غير أن جولة في الغيط بمنطقة وسط الجزيرة قسم المسلمية تكشف المستور، فالمياه لم تصل حتى الآن، ووقفنا على ترعتي عبد الرحمن وترعة نايل ووجدناها فارغة، فهذا هو حال مشروع الجزيرة، كأنما توجد قوى شر تعمل على تجفيفه، وفي احسن الاحوال تجد ماء الترعة في حده الادنى في درجة الشح ما يدفع المقتدرين من المزارعين الى ربط طلمبات سحب المياه «اللسترات»، فقد مضت حقبة الري الانسيابي في بقايا المشروع الذي يموت الآن باسفكسيا الخنق، مع الاصرار والترصد وبمساعدة اتحاد الهوان الذي يسمي اتحاد المزارعين الذي باتت قياداته مشغولة بالسياسة وتجاهلت قضية المزارع والمزارعين.
والواقع المؤلم لمشروع الجزيرة لا يجد الاهتمام، بدليل ان الدولة تقول على لسان قيادتها ان امريكا لم تسد العالم بفضل الزراعة وانما بالصناعة، وكذلك اوربا، اذن هو موقف دولة، غير ان ملامح المجاعات التي تجتاح العالم تجعلنا نصر على تسليط الضوء على قضايا الامن الغذائي، لأنه أساس الاستقرار للصناعة والسلم الاجتماعي، وها نحن نواصل تسليط الاضواء على المشكل.
«أن التغيرات المناخية قد تؤثر سلباً على الأمن الغذائي للفقراء والمصابين بسوء التغذية والمعتمدين على الإنتاج المحلي للأغذية»، هكذا جاء الحديث على لسان ويل كيلمان، رئيس مجموعة العمل المكلفة بالتغيرات المناخية في منظمة الأغذية والزراعة، وأضاف «إن التغيرات المناخية ستؤثر على الأمن الغذائي في أبعاده الأربعة وهي توفر الغذاء، وإمكانية الحصول عليه والاستقرار الغذائي وكيفية استعمال الغذاء». وأضاف أيضاً «ان الأمن الغذائي مهدَّد بشكل خاص في المناطق الهشة أصلاً، مثل منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وجنوب آسيا ومناطق من الشرق الأوسط».
وفي تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة، جاء أن التغيرات في أنماط تساقط الأمطار قد تؤثر على المحاصيل، في العديد من البلدان في المنطقة. وأشار كذلك إلى أن اليمن مهددة بشكل خاص بسبب انتشار الفقر وسرعة النمو السكاني والنقص الحاد في المياه.
المعالم الرئيسية للموارد الزراعية السودانية:
فحسب منظمة الزراعة والاغذية العالمية «الفاو» ورغم محاذيرها والصورة الداكنة لواقع الغذاء، فإن الموارد المتوفرة في عدد من بلدان العالم كافية لانتاج غذاء كافٍ. واشارت الى جملة من الامتيازات تتمتع بها البلاد، ففي الموارد الأرضية جملة مساحة السودان ميلون ميل مربع، أى 2.51 مليون كيلومتر مربع «600 مليون فدان»، وتشير تفاصيلها الى وجود أراضٍ صحراوية 175 مليون فدان تمثل 29% من إجمالى المساحة، وأراضٍ شبة صحراوية «75- 300 مم أمطار»: بمساحة 117 مليون فدان «20% من المساحة»، وأراضٍ غابات وأعشاب: 247 مليون فدان «41% من المساحة»، وهناك الأراضى الفيضية التي تبلغ رقعتها 60 مليون فدان «10% من المساحة وتسقط عليها أمطار 700- 1600 مم»، اما الأراضى الجبلية فرقعتها 1.5 مليون فدان «0.03% من المساحة».
وعليه فإن جملة الأراضى التي يمكن زراعتها حوالى 200 مليون فدان، أى نحو 30% من إجمالى مساحة السودان، منها حوالى 40 مليون فدان مزروعة «4 ملايين فدان مروية، 36 مليون فدان مطرية منها زراعات آلية فى 14 مليون فدان والباقى مناطق مطرية عادية». هذا غير مناطق الرعى والغابات.
وتصف البحوث أراضى السودان بالسهل الرسوبى المنبسط قليل الانحدار، و95% منها بين 450- 1200م فوق سطح البحر، والمرتفعات القليلة أقل من «0.5% من المساحة»، وتتكون سهول السودان من أنواع مختلفة من التربة أهمها التربة الرملية فى الأقاليم الصحراوية وشبه الصحراوية فى شمال وغرب السودان، وهى تربة فقيرة الخصوبة يزرع فيها الدخن والفول السودانى والسمسم والكركدي، والتربة الطينية فى أواسط وشرق السودان ويزرع فيها القطن ومناطق الزراعة الآلية المطرية يزرع فيها الذرة، وكذلك الغابات، وهناك التربة الرسوبية السلتية على ضفاف الأنهار والأودية والتربة الحديدية الحمراء فى جنوب السودان، وهى تربة فقيرة، علما بأن السودان يمتلك اكبر احتياطي للمياه الجوفية في العالم.
النظم الزراعية في السودان:
وحول النظم في الزراعة المطرية التقليدية فإنها تعتمد على الآلات اليدوية في عمليات الإنتاج، وتتركز الزراعة التقليدية في مناطق الغرب والجنوب وبعض مناطق وسط السودان، ويتذبذب الإنتاج في هذا القطاع من موسم لآخر وفقاً لكمية وتوزيع الأمطار، ويسهم هذا القطاع في الاقتصاد القومي بـ 90% من إنتاج الدخن و 48% من الفول السوداني و28% من السمسم و 11% من الذرة الرفيعة، اما مساهمته في انتاج الصمغ بالبلاد فتشكل 100% من الصمغ العربي، اضافة إنتاج محاصيل أخرى مثل الكركدي وحب البطيخ واللوبيا وبعض الخضروات، كما تشكل تربية الحيوان جزءاً من هذا القطاع.
والزراعة المروية تغطي حوالي «5» ملايين فدان، اي مليوني هكتار، وتروى بشكل أساسي من النيل وفروعه، وتشمل محاصيل القطاع المروي السكر، القطن، القمح، الذرة الرفيعة، الفول السوداني، البقوليات الشتوية، الخضروات، الفواكه، الأعلاف الخضراء وتمثل المحاصيل المنتجة في القطاع المروي حوالي 64%.
وفي مناطق الزراعة المطرية الآلية تتم زراعة محصول الذرة الرفيعة التي تحتل الصدارة وتغطي مساحه 85% من المساحة المزروعة، وينتج القطاع المطري الآلي حوالي 65% من إنتاج الذرة الرفيعة في السودان، اضافة محصول السمسم، ويلي الذرة الرفيعة في مساحة 10% من المساحة المزروعة وينتج القطاع 35%.
وسألت الدكتور عصام شلبي رئيس قسم المحاصيل بكلية الزراعة بجامعة الاسكندرية ورئيس الحملة القومية لانتاج القمح بمصر، عن رؤيته للموارد الطبيعية وما يمكن أن تحدثه بالبلاد، فابتدر حديثه قائلا لقد ادت زيادة اسعار النفط الى استخدام المحاصيل فى إنتاج الطاقة، كما ان التغيرات المناخية المتمثلة في زيادة نسبة ثانى أكسيد الكربون والميثان فى الجو قد أدت الى انتشار ظاهرة الصوبة الزجاجية «الدفيئة»، مما أدى للتأثير على الأمطار، وبدأ وجود ظاهرة الجفاف فى مناطق عديدة مثل استراليا والهند والصين، مما أثر على الإنتاج الزراعى، ونتج عن ذلك زيادة اسعار المنتجات الزراعية.
وبالمقارنة بين عامي 2002 و2007م تشير الاقام الى ان سعر طن القمح كان في 2002 بسعر 158 دولارا للطن، فيما بلغت اسعاره في 2007 360 دولارا، اما سعر البطاطس فقد قفز من 177 دولارا الى 270 دولاراً. وبالنسبة للبقوليات فبينما كان سعرها 470 دولارا للطن فقد قفز الى 630 دولارا في عام 2007م. وبالنسبة للخضر فقد ارتفع السعر الى 593 دولاراً بدلا عن 490 دولاراً، اما الزيوت فقد كانت اسعارها في الاسواق العالمية لعام 2002م1100 دولار للطن، فيما ارتفع سعر اللحوم الى 2140 دولارا في 2007م بدلا عن 1870 في عام 2002م. واذا كان ارتفاع اسعار المنتجات الزراعية في الاسواق العالمية مشجعا للاستثمار الزراعي فإن هنالك مميزات اخرى للاستثمار في السودان، اهمها الأراضى المترامية التي تبلغ مساحتها 200 مليون فدان صالحة للزراعة والرعى، كما ان هناك توفر الموارد المائية الكبيرة، كما ان التنوع المناخى الكبير الذي يتيح الزراعات المتباينة من المغريات للاستثمار الزراعي بالسودان.
ومضى دكتور شلبي في الحديث ليقول إن الزراعة هى الثروة المستقبلية والحقيقية للسودان، وهى أهم من البترول، كما أن شعار أن السودان ينبغى أن يكون سلة الغذاء للعالم العربى يجب أن يكون حقيقياً. ويقيننا ان الحكومة السودانية تدرك ذلك جيدا، بدليل الاهتمام بتحسين قطاع الزراعة المروية والمطرية والمشروعات الزراعية مثل مشروع الجزيرة وحلفا وقطاع الإنتاج الحيوانى والأسماك والغابات وتشجيع الاستثمار فى مجال الزراعة.
وسألته عن امكانية انتاج القمح بصورة تؤمن الأمن الغذائي خاصة وهو المتخصص في القمح، فاجابني: القمح محصول ذو أهمية استراتيجية كبرى لاستخدامه بكثرة فى غذاء الإنسان. ويتميز بأنه أكبر محصول به تصنيفات وراثية تجعله صالح للزراعة فى أماكن عديدة من العالم، ومع زيادة استهلاك العالم من القمح فى الصين والهند ودول أخرى وحدوث حالة جفاف فى روسيا وأوكرانيا وانخفاض إنتاجهم ستة ملايين طن، واستخدام أمريكا لكميات متزايدة من الذرة والقمح وفول الصويا لإنتاج الوقود الحيوي فلواسار والبترول «البرميل 90- 100 دولار»، كل ذلك أدى لزيادات كبيرة فى أسعار القمح، ولن تنزل هذه الأسعار فى خلال السنة القادمة، أى أنه يمكن القول «انتهى عصر الغذاء الرخيص»، فمثلاً تعاقدات شراء القمح الأمريكى اللين (Soft) لشهر سبتمبر 2007 وصلت 350- 370 دولار/ طن مقارنة بـ 160 دولارا- 200 دولار للطن فى نفس الفترة فى العام الماضى.
وامكانيات انتاج القمح في السودان مشابهة لمنطقني توشكي واسيوط في مصر، خاصة في ولايتي نهر النيل والشمالية وبمشروعات الجزيرة وحلفا والنيل الابيض. ووفقا للبيانات الرسمية فقد تذبذبت المساحات من موسم لآخر، فبينما كانت المساحة «567» الف فدان نجدها قد قفزت الى «820» الف فدان في عام 1990 لتتراجع في 2001م الى «284» الف فدان.
الدكتور أحمد البنا استاذ الميكنة الزراعية بالاسكندرية ومدير محطة بحوث الزراعات الجافة بمصر، حدثني قائلا: ان الموارد المتاحة بالسودان تؤهله لتوفير الامن الغذائي للبلدان العربية، اذ تتوفر الاراضي الخصبة والمياه الكافية للري، خاصة ان السودان يملك اكبر مخزون للمياه الجوفية على مستوى العالم، والمطلوب اتاحة الفرصة لاهل البحث العلمي لانتاج بذور بلدية تكون بنت السودان، فالبلاد قادرة على انتاج اية كميات من المحاصيل دون الحاجة للاعشاب الدخيلة، مع استصحاب تجربة السعودية، فعندما شهدت المملكة طفرة في انتاج القمح ادخل لها الامريكيون عينات من القمح ذات النسبة العالية من الشوائب، مما ادي الى استخدام كميات كبيرة من الاسمدة والمبيدات المهرمنة والمسرطنة، وهو توجه يعجل بتدمير الارض الزراعية.
ان المطلوب من الدولة وضع الضوابط الصارمة في الاستثمار الزراعي، فللمستثمر الوافد مخاطره وتوابعه، لذلك لا بد من الاستثمار الشريف الذي يحمي الدول العربية، خاصة ان السودان بمثابة المعدة للامة، وعليه فإن مسؤولية حماية البلاد من التقاوى والمدخلات الوافدة لا تتم الا بوجود حجر صحي قادر على الضبط الذي قوامه كادر بشري مؤهل لتوفير الحماية، خاصة انه لن تكون هنالك نهضة زراعية الا عبر المشروعات كثيفة العمالة، كما يجب استصحاب التصنيع الغذائي الذي يشكل قيمة مضافة للزراعة. وخلاصة القول إن حماية الامن الغذائي لا تتم الا بوضع سلة قوانين في مجالات الحجر الزراعي، وتدريب القوى البشرية القادرة على الانتاج.
أحد الخبراء الأجانب سمى السودان بأرض الفرص الاستثمارية، ويمكن للسودان ان يكون سلة غذاء العالم لو استغلت الموارد المتاحة وفق نهج علمي، على أن يصاحب ذلك توجه نحو تدريب الكوادر وبناء قدراتها، اضافة الى استجلاب احدث تقنيات الحفر للمياه الجوفية بالمناطق البعيدة عن سبل الري الانسيابي، إضافة الى الاستخدام الامثل للمياه، لأن امكانيات التوسع الزراعي بالسودان واعدة، مما يتطلب استخدام تكنولوجيا مثلى تبدأ بالأصناف الجيدة، مع توفير التمويل لصغار المنتجين.

ليست هناك تعليقات: